أحمد بهجة
تجاوزت قصة الكهرباء في لبنان قصة ابريق الزيت التي كان يُضرب بها المثل للدلالة على أمر معقّد لا حلّ له ولا نهاية، بل إعادة القصة نفسها في كلّ مرة.
وحتى لا نعيد سرد الوقائع ذاتها، نختصر ونقول إنّ العلة الأساسية كانت في قرار اتخذته الحكومة اللبنانية عام 1994 وقضى بدعم الكهرباء وتثبيت سعر الكيلواط بـ 9 سنتات، بما يعني أنّ مؤسسة كهرباء لبنان كانت طوال العقود الثلاثة الماضية واقعة تحت عجز مالي كبير، لأن كلفة الإنتاج أكثر من السعر المحدّد، مما جعلها بحاجة دائمة للاستعانة بالخزينة العامة لكي تسدّد ثمن الفيول الذي تستورده لتشغيل المعامل وتزويد الشبكة العامة بالتيار الكهربائي، حيث كانت عدد ساعات التغذية تتفاوت بين حين وآخر تبعاً لقدرة الخزينة العامة على توفير التمويل اللازم وسدّ عجز مؤسسة الكهرباء الناجم عن قرار الدعم.
هذه الحكاية استمرّت لسنوات طويلة رغم الخطط العديدة التي أعدّها الوزراء والخبراء الذين تعاقبوا على المسؤولية في وزارة الطاقة، ولن ندخل هنا في تحديد الأسباب التي تقف خلف عدم تنفيذ تلك الخطط وفق شعارات "خلّونا وما خلّونا"، لكن سنصل مباشرة إلى خطة وزير الطاقة السابق الدكتور وليد فياض الذي وضع الإصبع على الجرح وبدأ بمعالجة العلّة من مكان انطلاقها، أيّ من إلغاء دعم سعر الكهرباء ووقف الخسائر التي تتكبّدها المؤسسة بشكل دائم.
ذلك أنّ سدّ العجز من خلال الاستعانة بالخزينة العامة لم يعُد متيسّراً، لأنّ هذه الخزينة نفسها باتت عاجزة عن تلبية ما هو مطلوب منها في إطار الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة، وبتعبير أدقّ باتت الخزينة العامة عاجزة عن توفير الحدّ الأدنى من متطلبات تشغيل الدولة، وأصبحت أيّ مطالبة بتسديد عجز الكهرباء تدخل في سياق الاشتباك السياسي الحاصل في البلد على كلّ كبيرة وصغيرة.
من هنا كانت الحاجة الماسّة للإتيان بحلّ من خارج الصندوق، فكان القرار بإلغاء الدعم، وجعل المؤسسة تصل إلى مرحلة تموّل نفسها بنفسها من دون الحاجة إلى أيّ سلفات خزينة لم تعد هناك قدرة للحصول عليها. لكن تنفيذ الخطة كان يقتضي تمويلاً لمرة واحدة حتى تتمكن المؤسسة من تأمين التيار الكهربائي للمواطنين ثم تقوم بالجباية على أساس الأسعار الجديدة بعد رفع الدعم، وهي أقلّ بكثير طبعاً من فواتير المولدات الخاصة التي تمثل عبئاً كبيراً على الناس.
في البداية حاول الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة عرقلة الخطة بحجة عدم القدرة على تمويل المرحلة الأولى منها، 600 مليون دولار، التي كانت ستوفر نحو عشر ساعات من التغذية بالكهرباء، وبعد فترة من المماطلة والتسويف وافق على إعطاء المؤسسة سلفة بقيمة 300 مليون دولار، أيّ نصف الخطة، وعند الدفع حوّل إلى حساب المؤسسة 200 مليون دولار فقط.
كان الهدف من العرقلة واضحاً جداً، إذ أنه لم يكن جديداً، بل أمر مستمرّ منذ عقود كما ذكرنا سابقاً، لكن ذلك لم يمنع الوزير فياض ومؤسسة الكهرباء من الانطلاق في تنفيذ الخطة حتى ولو بشكل جزئي، وحين بدأ تحصيل الفواتير وفق التسعيرة الجديدة صار حساب المؤسسة ينمو نوعاً ما، حتى صار ممكناً تسديد ثمن الفيول العراقي من أموال الجباية وليس من الخزينة العامة كما كان يحصل سابقاً، وهذا ما شجع العراقيين على زيادة كمية الفيول من مليون إلى مليون ونصف المليون برميل، وبالتالي المساعدة على توفير ساعتين إضافيتين تقريباً من التغذية بالتيار.
هذا الإنجاز الكبير كان يجب أن تتمّ متابعته والاهتمام باستمراره وتطويره وصولاً إلى تنفيذ الخطة بشكل كامل، مع متابعة السعي طبعاً لبناء معامل جديدة، وتشغيل المعامل الموجودة على الغاز بدلاً من الفيول (وهي مؤهّلة لذلك)، ما يوفر على المؤسسة مبالغ هي بحاجة ماسّة إليها نتيجة الفارق الكبير بين كلفة الغاز وكلفة الفيول المرتفعة جداً فضلاً عن الأضرار البيئية الكبيرة التي يسبّبها استخدام الفيول.
لكن يبدو أننا عدنا مجدّداً إلى مربع النكايات السياسية، حيث أنّ الوزير الحالي جو صدي المحسوب على القوات، يسعى لاستيراد الفيول من مصدر آخر غير العراق، لأنّ الحكومة العراقية مؤيدة لفريق المقاومة في المنطقة، أو ربما يريد تغيير المصدر لكي يبرم صفقات معينة تفيده وتفيد فريقة السياسي على حساب مجموع اللبنانيين الذين كانوا ينتظرون من الوزير الجديد أن ينفذ الوعود بتأمين الكهرباء 24/24 ساعة كما أعلن عدد من المسؤولين في حزب القوات!
وعليه فإنّ هموم اللبنانيين في مكان بينما اهتمامات الوزير وفريقه في مكان آخر، وهذا لا ينطبق فقط على وزارة الطاقة بل على غيرها من الوزارات المهمة والأساسية التي لم تنجز أيّ شيء يُذكر بعد ستة أشهر من بدء عمل هذه الحكومة التي قيل إنها "حكومة تكنوقراط" بعيدة عن المناكفات السياسية المعتادة، بينما نجد على أرض الواقع أنها تفعل العكس تماماً بقرارات تضعف لبنان وتكشفه أمام المخاطر الآتية من كلّ جانب...!